الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)} انتهت قصة يوسف لتبدأ التعقيبات عليها. تلك التعقيبات التي أشرنا إليها في مقدمة الحديث عن السورة. وتبدأ معها اللفتات المتنوعة واللمسات المتعددة، والجولات الموحية في صفحة الكون وفي أغوار النفس وفي أثار الغابرين، وفي الغيب المجهول وراء الحاضر المعلوم. فنأخذ في استعراضها حسب ترتيبها في السياق. وهو ترتيب ذو هدف معلوم. تلك القصة لم تكن متداولة بين القوم الذين نشأ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ثم بعث إليهم. وفيها أسرار لم يعلمها إلا الذين لامسوها من أشخاص القصة، وقد غبرت بهم القرون. وقد سبق في مطلع السورة قول الله تعالى لنبيه: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن، وإن كنت من قبله لمن الغافلين} فها هو ذا يعقب على القصة بعد تمامها، ويعطف ختامها على مطلعها: {ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون}.. ذلك القصص الذي مضى في السياق من الغيب الذي لا تعلمه؛ ولكننا نوحيه إليك وآية وحيه أنه كان غيباً بالقياس إليك. وما كنت معهم إذ اجتمعوا واتفق رأيهم، وهم يمكرون ذلك المكر الذي تحدثت عنه القصة في مواضعه. وهم يمكرون بيوسف، وهم يمكرون بأبيهم، وهم يدبرون أمرهم بعد أخذ أخيه وقد خلصوا نجياً وهو من المكر بمعنى التدبير. وكذلك ما كان هناك من مكر بيوسف من ناحية النسوة ومن ناحية رجال الحاشية وهم يودعونه السجن.. كل أولئك مكر ما كنت حاضره لتحكي عنه إنما هو الوحي الذي سيقت السورة لتثبته من بين ما تثبت من قضايا هذه العقيدة وهذا الدين، وهي متناثرة في مشاهد القصة الكثيرة. ولقد كان من مقتضى ثبوت الوحي، وإيحاء القصص، واللفتات واللمسات التي تحرك القلوب، أن يؤمن الناس بهذا القرآن، وهم يشهدون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعرفون أحواله، ثم يسمعون منه ما يسمعون. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وهم يمرون كذلك على الآيات المبثوثة في صفحة الوجود فلا ينتبهون إليها، ولا يدركون مدلولها، كالذي يلوي صفحة وجهه فلا يرى ما يواجهه. فما الذي ينتظرونه؟ وعذاب الله قد يأخذهم بغته وهم لا يشعرون: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين. وما تسألهم عليه من أجر، إن هو إلا ذكر للعالمين. وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون. وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون. أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون}.. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان قومه، رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم، ورحمة لهم مما ينتظر المشركين من نكد الدنيا وعذاب الآخرة. ولكن الله العليم بقلوب البشر، الخبير بطبائعهم وأحوالهم، ينهي إليه أن حرصه على إيمانهم لن يسوق الكثرة المشركة إلى الإيمان، لأنهم كما قال في هذه الآيات يمرون على الآيات الكثيرة معرضين. فهذا الإعراض لا يؤهلهم للإيمان، ولا يجعلهم ينتفعون بدلائله المبثوثة في الآفاق. وإنك لغني عن إيمانهم فما تطلب منهم أجراً على الهداية؛ وإن شأنهم في الإعراض عنها لعجيب، وهي تبذل لهم بلا أجر ولا مقابل: {وما تسألهم عليه من أجر، إن هو إلا ذكر للعالمين}.. تذكرهم بآيات الله، وتوجه إليها أبصارهم وبصائرهم، وهي مبذولة للعالمين، لا احتكار فيها لأمة ولا جنس ولا قبيلة، ولا ثمن لها يعجز عنه أحد، فيمتاز الأغنياء على الفقراء، ولا شرط لها يعجز عنه أحد فيمتاز القادرون على العاجزين. إنما هي ذكرى للعالمين. ومائدة عامة شاملة معروضة لمن يريد.. {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون}.. والآيات الدالة على الله ووحدانيته وقدرته كثيرة مبثوثة في تضاعيف الكون، معروضة للأبصار والبصائر. في السماوات وفي الأرض. يمرون عليها صباح مساء، آناء الليل وأطراف النهار. وهي ناطقة تكاد تدعو الناس إليها. بارزة تواجه العيون والمشاعر. موحية تخايل للقلوب والعقول. ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون دعاءها ولا يحسون إيقاعها العميق. وإن لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها. لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد. لحظة تأمل في الخضم الزاخر، والعين الفوارة، والنبع الروي. لحظة تأمل في النبتة النامية، والبرعم الناعم، والزهرة المتفتحة، والحصيد الهشيم. لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء، والسمك السابح في الماء، والدود السارب والنمل الدائب، وسائر الحشود والأمم من الحيوان والحشرات والهوام.. لحظة تأمل في صبح أو مساء، في هدأة الليل أو في زحمة النهار.. لحظة واحدة يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب.. إن لحظة واحدة لكافية لارتعاش هذا القلب بقشعريرة الإدراك الرهيب، والتأثر المستجيب. ولكنهم {يمرون عليها وهم عنها معرضون}.. لذلك لا يؤمن الأكثرون! وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك في صورة من صوره إلى قلوبهم. فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة تنفي عن القلب أولاً بأول كل خالجة شيطانية، وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف، لتكون كلها لله، خالصة له دون سواه. والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب وعلى التصرف والسلوك فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.. مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث والأشياء والأشخاص. مشركون سبباً من الأسباب مع قدرة الله في النفع أو الضر سواء. مشركون في الدينونة لقوة غير قوة الله من حاكم أو موجه لا يستمد من شرع الله دون سواه. مشركون في رجاء يتعلق بغير الله من عباده على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر ولكن لغير الله. مشركون في عبادة يلحظ فيها وجه مع وجه الله.. لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل». وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي: روى الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر: «من حلف بغير الله فقد أشرك». وروى أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرقى والتمائم شرك». وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علق تميمة فقد أشرك». وعن أبي هريرة بإسناده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغني الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه». وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد ابن أبي فضالة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك». وروى الإمام أحمد بإسناده عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء. يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء» فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان. وهناك الشرك الواضح الظاهر، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة. الدينونة في شرع يتحاكم إليه وهو نص في الشرك لا يجادَل عليه والدينونة في تقليد من التقاليد كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله. والدينونة في زيّ من الأزياء يخالف ما أمر الله به من الستر ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر.. والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة حين يكون طاعة وخضوعاً ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد، وتركاً للأمر الواضح الصادر من رب العبيد. . إنه عندئذ لا يكون ذنباً، ولكنه يكون شركاً. لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله.. وهو من هذه الناحية أمر خطير.. ومن ثم يقول الله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.. فتنطبق على من كان يواجههم رسول الله في الجزيرة، وتشمل غيرهم على تتابع الزمان وتغير المكان. وبعد فما الذي ينتظره أولئك المعرضون عن آيات الله المعروضة في صفحات الوجود، بعد أعراضهم عن آيات القرآن التي لا يسألون عليها أجراً؟ ماذا ينتظرون؟ {أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون}.. وهي لمسة قوية لمشاعرهم، لإيقاظهم من غفلتهم، وليحذروا عاقبة هذه الغفلة. فإن عذاب الله الذي لا يعلم موعده أحد، قد يغشاهم اللحظة بغاشية تلفهم وتشملهم، وربما تكون الساعة على الأبواب فيطرقهم اليوم الرهيب المخيف بغتة وهم لا يشعرون.. إن الغيب موصد الأبواب، لا تمتد إليه عين ولا أذن، ولا يدري أحد ماذا سيكون اللحظة، فكيف يأمن الغافلون؟ وإذا كانت آيات هذا القرآن الذي يحمل دليل الرسالة، وكانت الآيات التي يحفل بها الكون معروضة للأنظار.. إذا كانت هذه وتلك يمرون عليها وهم عنها معرضون، ويشركون بالله شركاً ظاهراً أو خفياً وهم الأكثرون. فالرسول صلى الله عليه وسلم ماض في طريقه ومن اهتدى بهديه، لا ينحرفون ولا يتأثرون بالمنحرفين: {قل: هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله! وما أنا من المشركين}.. {قل: هذه سبيلي}.. واحدة مستقيمة، لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة. {ادعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}.. فنحن على هدى من الله ونور. نعرف طريقنا جيداً، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة، لا نخبط ولا نتحسس، ولا نحدس. فهو اليقين البصير المستنير. ننزه الله سبحانه عما لا يليق بألوهيته، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين أشركوا به: {وما أنا من المشركين}.. لا ظاهر الشرك ولا خافيه.. هذه طريقي فمن شاء فليتابع، ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم. وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي. فهذه الدعوة لا تؤدي شيئاً ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية؛ وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة الإسلامية. . لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي؛ وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضاً! إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي، وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم، وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة. وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين.. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس.. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصلية، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ! والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام.. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب!.. إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماماً عن سبيل الجاهلية؟ ثم لفتة إلى سنة الله في رسالاته، وإلى بعض آيات الله في الأرض من مصائر السابقين.. إن محمداً ليس بدعاً من الرسل، ورسالته ليست بدعاً من الرسالات. وهذه عواقب الذين كذبوا من قبل، آيات معروضة في الأرض. {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى. أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا، أفلا تعقلون}.. إن النظر في آثار الغابرين يهز القلوب. حتى قلوب المتجبرين. ولحظات الاسترجاع الخيالي لحركاتهم وسكناتهم وخلجاتهم؛ وتصورهم أحياء يروحون في هذه الأمكنة ويجيئون، يخافون ويرجون، يطمعون ويتطلعون.. ثم إذا هم ساكنون، لا حس ولا حركة. آثارهم خاوية، طواهم الفناء وانطوت معهم مشاعرهم وعوالمهم وأفكارهم وحركاتهم وسكناتهم، ودنياهم الماثلة للعيان والمستكنة في الضمائر والمشاعر.. إن هذه التأملات لتهز القلب البشري هزاً مهما يكن جاسياً غافلاً قاسياً. ومن ثم يأخذ القرآن بيد القوم ليوقفهم على مصارع الغابرين بين الحين والحين: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى}.. لم يكونوا ملائكة ولا خلقاً آخر. إنما كانوا بشراً مثلك من أهل القرى الحاضرة، لا من أهل البادية، ليكونوا أرق حاشية وألين جانباً.. وأصبر على احتمال تكاليف الدعوة والهداية، فرسالتك ماضية على سنة الله في إرسال رجال من البشر نوحي إليهم.. {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم}.. فيدركوا أن مصيرهم كمصيرهم؛ وأن سنة الله الواضحة الآثار في آثار الغابرين ستنالهم؛ وأن عاقبتهم في هذه الأرض إلى ذهاب: {ولدار الآخرة خير للذين اتقوا}. خير من هذه الدار التي ليس فيها قرار. {أفلا تعقلون؟}.. فتتدبروا سنن الله في الغابرين؟ أفلا تعقلون فتؤثروا المتاع الباقي على المتاع القصير؟ ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد: {حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، فننجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين}.. إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة. إنها ساعات حرجة، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كُذِبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟ وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله...؟} ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق. في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة.. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملاً حاسماً فاصلاً: {جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يردُّ بأسنا عن القوم المجرمين}.. تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمراً ماحقاً لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير. ذلك كي لا يكون النصر رخيصاً فتكون الدعوات هزلاً. فلو كان النصر رخيصاً لقام في كل يوم دعيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئاً. أو تكلفه القليل. ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثاً ولا لعباً. فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء. والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة، لذلك يشفقون أن يدَّعوها، فإذا ادَّعوها عجزوا عن حملها وطرحوها، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة! إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحاً معيناً محدداً في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحاً وأيسر حصيلة! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي زمان أو مكان يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات!.. ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثيرة التكاليف أيضاً. وأنه من ثم لا تنضم إليها في أول الأمر الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد هذه الصفوة يكون دائماً قليلاً جداً. ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، بعد جهاد يطول أو يقصر. وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجاً. وفي قصة يوسف ألوان من الشدائد. في الجب وفي بيت العزيز وفي السجن. وألوان من الاستيئاس من نصرة الناس.. ثم كانت العاقبة خيراً للذين اتقوا كما هو وعد الله الصادق الذي لا يخيب وقصة يوسف نموذج من قصص المرسلين. فيها عبرة لمن يعقل، وفيها تصديق ما جاءت به الكتب المنزلة من قبل، على غير صلة بين محمد وهذه الكتب. فما كان يمكن أن يكون ما جاء به حديثاً مفترى. فالأكاذيب لا يصدق بعضها بعضاً ولا تحقق هداية، ولا يستروح فيها القلب المؤمن الروح والرحمة: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثاً يفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل كل شيء، وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}.. وهكذا يتوافق المطلع والختام في السورة، كما توافق المطلع والختام في القصة. وتجيء التعقيبات في أول القصة وآخرها، وبين ثناياها، متناسقة مع موضوع القصة، وطريقة أدائها، وعباراتها كذلك. فتحقق الهدف الديني كاملاً، وتحقق السمات الفنية كاملة، مع صدق الرواية، ومطابقة الواقع في الموضوع. وقد بدأت القصة وانتهت في سورة واحدة، لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من الأداء، فهي رؤيا تتحقق رويداً رويداً، ويوماً بعد يوم، ومرحلة بعد مرحلة.
{المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)} تبدأ السورة بقضية عامة من قضايا العقيدة: قضية الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه. وتلك هي قاعدة بقية القضايا من توحيد لله، ومن إيمان بالبعث، ومن عمل صالح في الحياة. فكلها متفرعة عن الإيمان بأن الآمر بهذا هو الله، وأن هذا القرآن وحي من عنده سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: {المر. تلك آيات الكتاب. والذي أنزل إليك من ربك الحق. ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}.. ألف. لام. ميم. را.. {تلك آيات الكتاب}.. آيات هذا القرآن. أو تلك آيات على الكتاب تدل على الوحي به من عند الله. إذ كانت صياغته من مادة هذه الأحرف دلالة على أنه من وحي الله، لا من عمل مخلوق كائناً من كان. {والذي أنزل من ربك الحق}.. الحق وحده. الحق الخالص الذي لا يتلبس بالباطل. والذي لا يحتمل الشك والتردد. وتلك الأحرف آيات على أنه الحق. فهي آيات على أنه من عند الله. ولن يكون ما عند الله إلا حقاً لا ريب فيه. {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}.. لا يؤمنون بأنه موحى به، ولا بالقضايا المترتبة على الإيمان بهذا الوحي من توحيد لله ودينونة له وحده ومن بعث وعمل صالح في الحياة. هذا هو الافتتاح الذي يلخص موضوع السورة كله، ويشير إلى جملة قضاياها. ومن ثم يبدأ في استعراض آيات القدرة، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس؛ وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأن من مقتضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم. وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم. وتبدأ الريشة المعجزة في رسم المشاهد الكونية الضخمة.. لمسة في السماوات، ولمسة في الأرضين. ولمسات في مشاهد الأرض وكوامن الحياة.. ثم التعجيب من قوم ينكرون البعث بعد هذه الآيات الضخام، ويستعجلون عذاب الله، ويطلبون آية غير هذه الآيات: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون}. {وهو الذي مد الأرض، وجعل فيها رواسيَ وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يُغشي الليل النهار. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. {وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}. {وإن تعجب فعجب قولهم: أئذا كنا تراباً أئنّا لفي خلق جديد؟ أولئك الذين كفروا بربهم. وأولئك الأغلال في أعناقهم، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وإن ربك لشديد العقاب. ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}. والسماوات أياً كان مدلولها وأياً كان ما يدركه الناس من لفظها في شتى العصور معروضة على الأنظار، هائلة ولا شك حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة. وهي هكذا لا تستند إلى شيء. مرفوعة {بغير عمد} مكشوفة {ترونها}.. هذه هي اللمسة الأولى في مجالي الكون الهائلة وهي بذاتها اللمسة الأولى للوجدان الإنساني، وهو يقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه؛ ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفعها بلا عمد أو حتى بعمد إلا الله؛ وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد تلك البنيان الصغيرة الهزيلة القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه. ثم يتحدث الناس عما في تلك البنيان من عظمة ومن قدرة ومن إتقان، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد؛ وعما وراءها من القدرة الحقة والعظمة الحقة، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان! ومن هذا المنظور الهائل الذي يراه الناس، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار: {ثم استوى على العرش}.. فإن كان علو فهذا أعلى. وإن كانت عظمة فهذا أعظم. وهو الاستعلاء المطلق، يرسمه في صورة على طريقة القرآن في تقريب الأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة. وهي لمسة أخرى هائلة من لمسات الريشة المعجزة. لمسة في العلو المطلق إلى جانب اللمسة الأولى في العلو المنظور، تتجاوران وتتسقان في السياق.. ومن الاستعلاء المطلق إلى التسخير. تسخير الشمس والقمر. تسخير العلو المنظور للناس على ما فيه من عظمة أخاذة، أخذت بألبابهم في اللمسة الأولى، ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال. ونقف لحظة أمام التقابلات المتداخلة في المشهد قبل أن نمضي معه إلى غايته، فإذا نحن أمام ارتفاع في الفضاء المنظور يقابله ارتفاع في الغيب المجهول. وإذا نحن أمام استعلاء يقابله التسخير. وإذا نحن أمام الشمس والقمر يتقابلان في الجنس: نجم وكوكب، ويتقابلان في الأوان، بالليل والنهار.. ثم نمضي مع السياق.. فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير: {كل يجري لأجل مسمى}.. وإلى حدود مرسومة، ووفق ناموس مقدر. سواء في جريانهما في فلكيهما دورة سنوية ودورة يومية. أو جريانهما في مداريهما لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه. أو جريانهما إلى الأمد المقدر لهما قبل أن يحول هذا الكون المنظور. {يدبر الأمر}.. الأمر كله، على هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى. . والذي يمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لا تتعداه، لا شك عظيم التدبير جليل التقدير. ومن تدبيره الأمر أنه {يفصل الآيات} وينظمها وينسقها، ويعرض كلاً منها في حينه، ولعلته، ولغايته {لعلكم بلقاء ربكم توقنون} حين ترون الآيات مفصلة منسقة، ومن ورائها آيات الكون، تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة، وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من تدبير وتقدير وإحكام.. ذلك كله يوحي بأن لا بد من عودة إلى الخالق بعد الحياة الدنيا، لتقدير أعمال البشر، ومجازاتهم عليها. فذلك من كمال التقدير الذي توحي به حكمه الخلق الأول عن حكمة وتدبير. وبعد ذلك يهبط الخط التصويري الهائل من السماء إلى الأرض فيرسم لوحتها العريضة الأولى: {وهو الذي مد الأرض، وجعل فيها رواسي وأنهاراً، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين. يغشي الليل النهار. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.. والخطوط العريضة في لوحة الأرض هي مد الأرض وبسطها أمام النظر وانفساحها على مداه. لا يهم ما يكون شكلها الكلي في حقيقته. إنما هي مع هذا ممدودة مبسوطة فسيحة. هذه هي اللمسة الأولى في اللوحة. ثم يرسم خط الرواسي الثوابت من الجبال، وخط الأنهار الجارية في الأرض. فتتم الخطوط العريضة الأولى في المشهد الأرضي، متناسقة متقابلة. ومما يناسب هذه الخطوط الكلية ما تحتويه الأرض من الكليات، وما يلابس الحياة فيها من كليات كذلك. وتتمثل الأولى فيما تنبت الأرض: {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين}. وتتمثل الثانية في ظاهرتي الليل والنهار: {يغشي الليل النهار}. والمشهد الأول يتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم إلا قريباً. هي أن كل الأحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وأنثى، حتى النباتات التي كان مظنوناً أن ليس لها من جنسها ذكور، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة، أو متفرقة في العود. وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في إثارة الفكر إلى تدبر أسرار الخلق بعد تملي ظواهره. والمشهد الثاني مشهد الليل والنهار متعاقبين، هذا يغشي ذاك، في انتظام عجيب. هو ذاته مثار تأمل في مشاهد الطبيعة، فقدوم ليل وإدبار نهار أو إشراق فجر وانقشاع ليل، حادث تهوّن الألفة من وقعه في الحس، ولكنه في ذاته عجب من العجب، لمن ينفض عنه موات الألفة وخمودها، ويتلقاه بحس الشاعر المتجدد، الذي لم يجمده التكرار.. والنظام الدقيق الذي لا تتخلف معه دورة الفلك هو بذاته كذلك مثار تأمل في ناموس هذا الكون، وتفكير في القدرة المبدعة التي تدبره وترعاه: {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.. ونقف كذلك هنا وقفة قصيرة أمام التقابلات الفنية في المشهد قبل أن نجاوزه إلى ما وراءه. .. التقابلات بين الرواسي الثابتة والأنهار الجارية. وبين الزوج والزوج في كل الثمرات. وبين الليل والنهار. ثم بين مشهد الأرض كله ومشهد السماء السابق. وهما متكاملان في المشهد الكوني الكبير الذي يضمهما ويتألف منهما جميعاً. ثم تمضي الريشة المبدعة في تخطيط وجه الأرض بخطوط جزئية أدق من الخطوط العريضة الأولى: {وفي الأرض قطع متجاورات، وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.. وهذه المشاهد الأرضية، فينا الكثيرون يمرون عليها فلا تثير فيهم حتى رغبة التطلع إليها! إلا أن ترجع النفس إلى حيوية الفطرة والاتصال بالكون الذي هي قطعة منه، انفصلت عنه لتتأمله ثم تندمج فيه.. {وفي الأرض قطع متجاورات}.. متعددة الشيات، وإلا ما تبين أنها {قطع} فلو كانت متماثلة لكانت قطعة.. منها الطيب الخصب، ومنها السبخ النكد. ومنها المقفر الجدب، ومنها الصخر الصلد. وكل واحد من هذه وتلك انواع وألوان ودرجات. ومنها العامر والغامر. ومنها المزروع الحي والمهمل الميت. ومنها الريان والعطشان. ومنها ومنها ومنها.. وهي كلها في الأرض متجاورات. هذه اللمسة العريضة الأولى في التخطيط التفصيلي.. ثم تتبعها تفصيلات: {وجنات من أعناب}. {وزرع}. {ونخيل} تمثل ثلاثة أنواع من النبات، الكرم المتسلق. والنخل السامق. والزرع من بقول وأزهار وما أشبه. مما يحقق تلوين المنظر، وملء فراغ اللوحة الطبيعية، والتمثيل لمختلف أشكال النبات. ذلك النخيل. صنوان وغير صنوان. منه ما هو عود واحد. ومنه ما هو عودان أو أكثر في أصل واحد.. وكله {يسقى بماء واحد} والتربة واحدة، ولكن الثمار مختلفات الطعوم: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل}. فمن غير الخالق المدبر المريد يفعل هذا وذاك؟! من منا لم يذق الطعوم مختلفات في نبت البقعة الواحدة. فكم منا التفت هذه اللفتة التي وجه القرآن إليها العقول والقلوب؟ إنه بمثل هذا يبقى القرآن جديداً أبداً، لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس؛ وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود. {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.. ومرة ثالثة نقف أمام التقابلات الفنية في اللوحة بين القطع المتجاورات المختلفات. والنخل صنوان وغير صنوان والطعوم مختلفات. والزرع والنخيل والأعناب.. تلك الجولة الهائلة في آفاق الكون الفسيحة، يعود منها السياق ليعجّب من قوم، هذه الآيات كلها في الآفاق لا توقظ قلوبهم، ولا تنبه عقولهم، ولا يلوح لهم من ورائها تدبير المدبر، وقدرة الخالق، كأن عقولهم مغلولة، وكأن قلوبهم مقيدة، فلا تنطلق للتأمل في تلك الآيات: {وإن تعجب فعجب قولهم: أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد؟ أولئك الذين كفروا بربهم، وأولئك الأغلال في أعناقهم، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. وإنه لعجيب يستحق التعجيب، أن يسأل قوم بعد هذا العرض الهائل: {أإذا كنا ترابا أإناً لفي خلق جديد؟}.. والذي خلق هذا الكون الضخم ودبره على هذا النحو، قادر على إعادة الأناسي في بعث جديد. إنما هو الكفر بربهم الذي خلقهم ودبر أمرهم. وإنما هي أغلال العقل والقلب. فالجزاء هو الأغلال في الأعناق، تنسيقاً بين غل العقل وغل العنق؛ والجزاء هو النار خالدين فيها. فقد عطلوا كل مقومات الإنسان التي من أجلها يكرمه الله، وانتكسوا في الدنيا فهم في الآخرة يلاقون عاقبة الانتكاس حياة أدنى من حياتهم الدنيا، التي عاشوها معطلي الفكر والشعور والإحساس. هؤلاء القوم الذين يعجبون من أن يبعثهم الله خلقاً جديداً. وعجبهم هذا هو العجب! هؤلاء يستعجلونك أن تأتيهم بعذاب الله، بدلاً من أن يطلبوا هدايته ويرجوا رحمته: {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة}.. وكما أنهم لا ينظرون في آفاق الكون، وآيات الله المبثوثة في السماء والأرض، فهم لا ينظرون إلى مصارع الغابرين الذين استعجلوا عذاب الله فأصابهم؛ وتركهم مثلة يعتبر بها من بعدهم: {وقد خلت من قبلهم المثلات}.. فهم في غفلة حتى عن مصائر أسلافهم من بني البشر، وقد كان فيها مثل لمن يعتبر. {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}.. فهو بعباده رحيم حتى وإن ظلموا فترة، يفتح لهم باب المغفرة ليدخلوه عن طريق التوبة. ولكن يأخذ بعقابه الشديد من يصرون ويلجون، ولا يلجون من الباب المفتوح. {إن ربك لشديد العقاب}.. والسياق يقدم هنا مغفرة الله على عقابه، في مقابل تعجل هؤلاء الغافلين للعذاب قبل الهداية. ليبدو الفارق الضخم الهائل بين الخير الذي يريده الله لهم، والشر الذي يريدونه لأنفسهم. ومن ورائه يظهر انطماس البصيرة، وعمى القلب، والانتكاس الذي يستحق درك النار. ثم يمضي السياق في التعجيب من أمر القوم، الذين لا يدركون كل تلك الآيات الكونية، فيطلبون آية واحدة ينزلها الله على رسوله. آية واحدة والكون حولهم كله آيات: {ويقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه! إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد}.. إنهم يطلبون خارقة. والخوارق ليست من عمل الرسول ولا اختصاصه. إنما يبعث بها الله معه، حين يرى بحكمته أنها لازمة. {إنما انت منذر} محذر ومبصر. شأنك شأن كل رسول قبلك، فقد بعث الله الرسل للأقوام للهداية {ولكل قوم هاد} فأما الآيات الخارقة فأمرها إلى مدبر الكون والعباد. وبذلك تنتهي الجولة الأولى في الآفاق، والتعقيبات عليها. ليبدأ السياق جولة جديدة في واد آخر: في الأنفس والمشاعر والأحياء: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له، وما لهم من دونه من وال}.. ويقف الحس مشدوهاً يرتعش تحت وقع هذه اللمسات العميقة في التصوير، وتحت إيقاع هذه الموسيقى العجيبة في التعبير. يقف مشدوهاً وهو يقفو مسارب علم الله ومواقعه؛ وهو يتبع الحمل المكنون في الأرحام، والسر المكنون في الصدور، والحركة الخفية في جنح الليل؛ وكل مستخف وكل سارب وكل هامس وكل جاهر. وكل أولئك مكشوف تحت المجهر الكاشف، يتتبعه شعاع من علم الله، وتتعقبه حفظة تحصي خواطره ونواياه.. ألا إنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ إلى الله، تطمئن في حماه.. وإن المؤمن بالله ليعلم أن علم الله يشمل كل شيء. ولكن وقع هذه القضية الكلية في الحس، لا يقاس إلى وقع مفرداتها كما يعرض السياق بعضها في هذا التصوير العجيب. وأين أية قضية تجريدية، وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. وكل شيء عنده بمقدار}؟ حين يذهب الخيال يتتبع كل أنثى في هذا الكون.. المترامي الأطراف.. كل أنثى.. كل أنثى في الوبر والمدر، في البدو والحضر، في البيوت والكهوف والمسارب والغابات. ويتصور علم الله مطلاً على كل حمل في أرحام هذه الإناث، وعلى كل قطرة من دم تغيض أو تزداد في تلك الأرحام! وأين أية قضية تجريدية وأية حقيقة كلية في هذا المجال من قوله: {سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}؟ حين يذهب الخيال يتتبع كل هامس وكل جاهر، وكل مستخف وكل سارب في هذا الكون الهائل. ويتصور علم الله يتعقب كل فرد من بين يديه ومن خلفه، ويقيد عليه كل شاردة وكل واردة آناء الليل وأطراف النهار! إن اللمسات الأولى في آفاق الكون الهائل ليست بأضخم ولا أعمق من هذه اللمسات الأخيرة في أغوار النفس والغيب ومجاهيل السرائر. وإن هذه لكفء لتلك في مجال التقابل والتناظر.. ونستعرض شيئاً من بدائع التعبير والتصوير في تلك الآيات: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد. وكل شيء عنده بمقدار}.. فلما أن صور العلم بالغيض والزيادة في مكنونات الأرحام، عقب بأن كل شيء عنده بمقدار. والتناسق واضح بين كلمة مقدار وبين النقص والزيادة. والقضية كلها ذات علاقة بإعادة الخلق فيما سبق من ناحية الموضوع. كما أنها من ناحية الشكل والصورة ذات علاقة بما سيأتي بعدها من الماء الذي تسيل به الأودية {بقدرها} في السيولة والتقدير.. كما أن في الغيض والزيادة تلك المقابلة المعهودة في جو السورة على الإطلاق.. {عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال}.. ولفظة {الكبير} ولفظة {المتعال} كلتاها تلقي ظلها في الحس. ولكن يصعب تصوير ذلك الظل بألفاظ أخرى. إنه ما من خلق حادث إلا وفيه نقص يصغره. وما يقال عن خلق من خلق الله كبير، أو أمر من الأمور كبير، أو عمل من الأعمال كبير، حتى يتضاءل بمجرد أن يذكر الله.. وكذلك {المتعال}.. تراني قلت شيئاً؟ لا. ولا أي مفسر آخر للقرآن وقف أمام {الكبير المتعال} ! {سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به، ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}.. والتقابل واضح في العبارة. إنما تستوقفنا كلمة {سارب} وهي تكاد بظلها تعطي عكس معناها، فظلها ظل خفاء أو قريب من الخفاء. والسارب: الذاهب. فالحركة فيها هي المقصودة في مقابل الاستخفاء. هذه النعومة في جرس اللفظ وظله مقصودة هنا كي لا تخدش الجو. جو العلم الخفي اللطيف الذاهب وراء الحمل المكنون والسر الخافي والمستخفي بالليل والمعقبات التي لا تراها الأنظار. فاختار اللفظ الذي يؤدي معنى التقابل مع المستخفي ولكن في لين ولطف وشبه خفاء! {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله}.. والحفظة التي تتعقب كل انسان، وتحفظ كل شاردة وكل واردة وكل خاطرة وكل خالجة، والتي هي من أمر الله، لا يتعرض لها السياق هنا بوصف ولا تعريف. أكثر من أنها.. {من أمر الله}.. فلا نتعرض نحن لها: ما هي؟ وما صفاتها؟ وكيف تتعقب؟ وأين تكون؟ ولا نذهب بجو الخفاء والرهبة والتعقب الذي يسبغه السياق. فذلك هو المقصود هنا؛ وقد جاء التعبير بقدره؛ ولم يجئ هكذا جزافاً؛ وكل من له ذوق بأجواء التعبير يشفق من أن يشوه هذا الجو الغامض بالكشف والتفصيل! {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.. فهو يتعقبهم بالحفظة من أمره لمراقبة ما يحدثونه من تغيير بأنفسهم وأحوالهم فيرتب عليه الله تصرفه بهم. فإنه لا يغير نعمة أو بؤسى، ولا يغير عزاً أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة.. إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم. وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون. ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم، ويجيء لاحقاً له في الزمان بالقياس إليهم. وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم. والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل. وهو يحمل كذلك إلى جانب التبعة دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه. وبعد تقرير المبدأ يبرز السياق حالة تغيير الله ما بقوم إلى السوء؛ لأنهم حسب المفهوم من الآية غيروا ما بأنفسهم إلى أسوء فأراد لهم الله السوء: {وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}.. يبرز السياق هذا الجانب هنا دون الجانب الآخر لأنه في معرض الذين يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة. وقد قدم لهم هناك المغفرة على العذاب ليبرز غفلتهم، وهو هنا يبرز العاقبة السوأى وحدها لإنذارهم حيث لا يرد عذاب الله عنهم إذا استحقوه بما في أنفسهم ولا يعصمهم منه وال يناصرهم.. ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر، موصول بذلك الوادي الذي كنا فيه. واد تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس، متداخلة متناسقة في الصورة والظل والإيقاع. وتخيم عليه الرهبة والضراعة والجهد والإشفاق. وتظل النفس فيه في ترقب وحذر، وفي تأثر وانفعال: {هو الذي يريكم البرق. خوفاً وطمعاً. وينشئ السحاب الثقال. ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال. له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال. ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وظلالهم، بالغدو والآصال. قل: من رب السماوات والأرض؟ قل: الله. قل: أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؟ قل: هل يستوي الأعمى والبصير. أم هل تستوي الظلمات والنور؟ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل: الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار}.. والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان. وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس سواء عند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها والذين لا يعرفون عن الله شيئاً! والسياق يحشدها هنا؛ ويضيف إليها الملائكة والظلال والتسبيح والسجود والخوف والطمع، والدعاء الحق والدعاء الذي لا يستجاب. ويضم إليها هيئة أخرى: هيئة ملهوف يتطلب الماء، باسطاً كفيه ليبلغه، فاتحاً فاه يتلقف منه قطرة.. هذه كلها لا تتجمع في النص اتفاقاً أو جزافاً. إنما تتجمع لتلقي كلها ظلالها على المشهد، وتلفه في جو من الرهبة والترقب، والخوف والطمع، والضراعة والارتجاف، في سياق تصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر، نفياً للشركاء المدعاة، وإرهاباً من عقبى الشرك بالله. {هو الذي يريكم البرق. خوفاً وطمعاً}.. هو الله الذي يريكم هذه الظاهرة الكونية، فهي ناشئة من طبيعة الكون التي خلقها هو على هذا النحو الخاص، وجعل لها خصائصها وظواهرها. ومنها البرق الذي يريكم إياه وفق ناموسه، فتخافونه لأنه بذاته يهز الأعصاب، ولأنه قد يتحول إلى صاعقة، ولأنه قد يكون نذيراً بسيل مدمر كما علمتكم تجاربكم. وتطمعون في الخير من ورائه، فقد يعقبه المطر المدرار المحيي للموات، المجري للأنهار. {وينشئ السحاب الثقال}.. وهو كذلك الذي ينشئ السحاب والسحاب اسم جنس واحدته سحابة الثقال بالماء. فوفق ناموسه في خلقة هذا الكون وتركيبه تتكون السحب، وتهطل الأمطار. ولو لم يجعل خلقة الكون على هذا النحو ما تكونت سحب ولا هطلت أمطار. ومعرفة كيف تتكون السحب، وكيفية هطول الأمطار لا تفقد هذه الظاهرة الكونية شيئاً من روعتها، ولا شيئاً من دلالتها. فهي تتكون وفق تركيب كوني خاص لم يصنعه أحد إلا الله. ووفق ناموس معين يحكم هذا التركيب لم يشترك في سنه أحد من عبيد الله! كما أن هذا الكون لم يخلق نفسه، ولا هو الذي ركب في ذاته ناموسه! والرعد.. الظاهرة الثالثة لجو المطر والبرق والرعد.. هذا الصوت المقرقع المدوي. إنه أثر من آثار الناموس الكوني، الذي صنعه الله- أياً كانت طبيعته وأسبابه- فهو رجع صنع الله في هذا الكون، فهو حمد وتسبيح بالقدرة التي صاغت هذا النظام. كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من آثار صنعته من جمال وإتقان.. وقد يكون المدلول المباشر للفظ يسبح هو المقصود فعلاً، ويكون الرعد {يسبح} فعلاً بحمد الله. فهذا الغيب الذي زواه الله عن البشر لا بد أن يتلقاه البشر بالتصديق والتسليم وهم لا يعلمون من أمر هذا الكون ولا من أمر أنفسهم إلا القليل! وقد اختار التعبير أن ينص على تسبيح الرعد بالحمد اتباعاً لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامته لتشارك في المشهد بحركة من جنس المشهد كله كما فصلت هذا في كتاب التصوير الفني في القرآن والمشهد هنا مشهد أحياء في جو طبيعي. وفيه الملائكة تسبح من خيفته، وفيه دعاء لله، ودعاء للشركاء. وفيه باسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.. ففي وسط هذا المشهد الداعي العابد المتحرك اشترك الرعد ككائن حي بصوته في التسبيح والدعاء.. ثم يكمل جو الرهبة والابتهال والبرق والرعد والسحاب الثقال.. بالصواعق يرسلها فيصيب بها من يشاء. والصواعق ظاهرة طبيعية ناشئة من تركيب الكون على هذا المنوال؛ والله يصيب بها أحياناً من غيروا ما بأنفسهم واقتضت حكمته ألا يمهلهم، لعلمه أن لا خير في إمهالهم، فاستحقوا الهلاك. والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه.. في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال: {وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال} ! وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق، الناطقة كلها بوجود الله الذي يجادلون فيه وبوحدانيته واتجاه التسبيح والحمد إليه وحده من أضخم مجالي الكون الهائل، ومن الملائكة الذين يسبحون من خيفته (وللخوف إيقاعه في هذا المجال) فأين من هذا كله أصوات الضعاف من البشر وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال؟! وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه. ودعوة الله هي وحدها الحق؛ وما عداها باطل ذاهب، لا ينال صاحبه منه إلا العناء: {له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء، إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.. والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف.. فدعوة واحدة هي الحق، وهي التي تحق، وهي التي تستجاب. إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونه ورحمته وهداه. وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء.. ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم. ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه. وفمه مفتوح يلهث بالدعاء. يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه. وما هو ببالغه. بعد الجهد واللهفة والعناء. وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}. وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف قطرة من ماء؟ في جو البرق والرعد والسحاب الثقال، التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار! وفي الوقت الذي يتخذ هؤلاء الخائبون آلهة من دون الله، ويتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء، إذا كل من في الكون يعنو لله. وكلهم محكومون بإرادته، خاضعون لسنته، مسيرون وفق ناموسه. المؤمن منهم يخضع طاعة وإيماناً، وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاماً فما يملك أحد أن يخرج على إرادة الله، ولا أن يعيش خارج ناموسه الذي سنه للحياة: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وظلالهم، بالغدو والآصال}.. ولأن الجو جو عبادة ودعاء، فإن السياق يعبر عن الخضوع لمشيئة الله بالسجود وهو اقصى رمز للعبودية، ثم يضم إلى شخوص من في السماوات والأرض، ظلالهم كذلك. ظلالهم بالغدو في الصباح، وبالآصال عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال. يضم هذه الظلال إلى الشخوص في السجود والخضوع والامتثال. وهي في ذاتها حقيقة، فالظلال تبع للشخوص. ثم تلقي هذه الحقيقة ظلها على المشهد، فإذا هو عجب. وإذا السجود مزدوج: شخوص وظلال! وإذا الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء. كلها تسجد لله.. وأولئك الخائبون يدعون آلهة من دون الله! وفي جو هذا المشهد العجيب يتوجه إليهم بالأسئلة التهكمية. فما يجدر بالمشرك بالله في مثل هذا الجو إلا التهكم، وما يستحق إلا السخرية والاستهزاء: {قل: من رب السماوات والأرض؟ قل: الله. قل: أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؟ قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أم هل تستوي الظلمات والنور؟ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم؟ قل: الله خالق كل شيء، وهو الواحد القهار}.. سلهم وكل من في السماوات والأرض مأخوذ بقدرة الله وإرادته رضي أم كره: {من رب السماوات والأرض؟}.. وهو سؤال لا ليجيبوا عنه، فقد أجاب السياق من قبل. إنما ليسمعوا الجواب ملفوظاً وقد رأوه مشهوداً: {قل: الله}.. ثم سلهم: {أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً؟}.. سلهم للاستنكار فهم بالفعل قد اتخذوا أولئك الأولياء. سلهم والقضية واضحة، والفرق بين الحق والباطل واضح: وضوح الفارق بين الأعمى والبصير، وبين الظلمات والنور. وفي ذكر الأعمى والبصير إشارة إليهم وإلى المؤمنين؛ فالعمى وحده هو الذي يصدهم عن رؤية الحق الواضح الجاهر الذي يحس بأثره كل من في السماوات والأرض. وفي ذكر الظلمات والنور إشارة إلى حالهم وحال المؤمنين، فالظلمات التي تحجب الرؤية هي التي تلفهم وتكفهم عن الإدراك للحق المبين. أم ترى هؤلاء الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله، خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله. فتشابهت على القوم هذه المخلوقات وتلك، فلم يدروا أيها من خلق الله وأيها من خلق الشركاء؟ فهم معذورون إذن إن كان الأمر كذلك، في اتخاذ الشركاء، فلهم من صفات الله تلك القدرة على الخلق، التي بها يستحق المعبود العبادة؛ وبدونها لا تقوم شبهة في عدم استحقاقه! وهو التهكم المر على القوم يرون كل شيء من خلق الله، ويرون هذه الآلهة المدعاة لم تخلق شيئاً، وما هي بخالقة شيئاً، إنما هي مخلوقة. وبعد هذا كله يعبدونها ويدينون لها في غير شبهة. وذلك أسخف وأحط ما تصل العقول إلى دركه من التفكير.. والتعقيب على هذا التهكم اللاذع، حيث لا معارضة ولا جدال، بعد هذا السؤال: {قل: الله خالق كل شيء. وهو الواحد القهار}.. فهي الوحدانية في الخلق، وهي الوحدانية في القهر أقصى درجات السلطان وهكذا تحاط قضية الشركاء في مطلعها بسجود من في السماوات والأرض وظلالهم طوعاً وكرهاً لله؛ وفي ختامها بالقهر الذي يخضع له كل شيء في الأرض أو في السماء. . وقد سبقته من قبل بروق ورعود وصواعق وتسبيح وتحميد عن خوف أو طمع.. فأين القلب الذي يصمد لهذا الهول، إلا أن يكون أعمى مطموساً يعيش في الظلمات، حتى يأخذه الهلاك؟! وقبل أن نغادر هذا الوادي نشير إلى التقابلات الملحوظة في طريقة الأداء. بين {خوفاً وطمعاً} وبين البرق الخاطف والسحاب الثقال و{الثقال} هنا، بعد إشارتها إلى الماء، تشارك في صفة التقابل مع البرق الخفيف الخاطف وبين تسبيح الرعد بحمده وتسبيح الملائكة من خيفته. وبين دعوة الحق ودعوة الجهد الضائع. وبين السماوات والأرض، وسجود من فيهن طوعاً وكرهاً. وبين الشخوص والظلال. وبين الغدو والآصال. وبين الأعمى والبصير. وبين الظلمات والنور. وبين الخالق القاهر والشركاء الذين لا يخلقون شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً... وهكذا يمضي السياق على نهجه في دقة ملحوظة ولألاء باهر وتنسيق عجيب. ثم نمضي مع السياق. يضرب مثلاً للحق والباطل. للدعوة الباقية والدعوة الذاهبة مع الريح. للخير الهادئ والشر المتنفج. والمثل المضروب هنا مظهر لقوة الله الواحد القهار. ولتدبير الخالق المدبر المقدر للأشياء. وهو من جنس المشاهد الطبيعية التي يمضي في جوها السياق. {أنزل من السماء ماء، فسالت أودية بقدرها، فاحتمل السيل زبداً رابياً: ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله. كذلك يضرب الله الحق والباطل. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. كذلك يضرب الله الأمثال}.. وإنزال الماء من السماء حتى تسيل به الوديان يتناسق مع جو البرق والرعد والسحاب الثقال في المشهد السابق؛ ويؤلف جانباً من المشهد الكوني العام، الذي تجري في جوه قضايا السورة وموضوعاتها. وهو كذلك يشهد بقدرة الواحد القهار.. وأن تسيل هذه الأودية بقدرها، كل بحسبه، وكل بمقدار طاقته ومقدار حاجته يشهد بتدبير الخالق وتقديره لكل شيء.. وهي إحدى القضايا التي تعالجها السورة.. وليس هذا أو ذلك بعد إلا إطاراً للمثل الذي يريد الله ليضربه للناس من مشهود حياتهم الذي يمرون عليه دون انتباه. إن الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، وهو يلم في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه في صورة الزبد حتى ليحجب الزبد الماء في بعض الأحيان. هذا الزبد نافش راب منتفخ.. ولكنه بعد غثاء. والماء من تحته سارب ساكن هادئ.. ولكنه هو الماء الذي يحمل الخير والحياة.. كذلك يقع في المعادن التي تذاب لتصاغ منها حلية كالذهب والفضة، أو آنية أو آلة نافعة للحياة كالحديد والرصاص، فإن الخبث يطفو وقد يحجب المعدن الأصيل. ولكنه بعدُ خبثٌ يذهب ويبقى المعدن في نقاء.. ذلك مثل الحق والباطل في هذه الحياة. فالباطل يطفو ويعلو وينتفخ ويبدو رابياً طافياً ولكنه بعدُ زبد أو خبث، ما يلبث أن يذهب جفاء مطروحاً لا حقيقة له ولا تماسك فيه. والحق يظل هادئاً ساكناً. وربما يحسبه بعضهم قد انزوى أو غار أو ضاع أو مات. ولكنه هو الباقي في الأرض كالماء المحيي والمعدن الصريح، ينفع الناس، {كذلك يضرب الله الأمثال} وكذلك يقرر مصائر الدعوات، ومصائر الاعتقادات. ومصائر الأعمال والأقوال. وهو الله الواحد القهار، المدبر للكون والحياة، العليم بالظاهر والباطن، والحق والباطل والباقي والزائل. فمن استجاب لله فله الحسنى. والذين لم يستجيبوا له يلاقون من الهول ما يود أحدهم لو ملك ما في الأرض ومثله معه أن يفتدى به. وما هو بمفتد، إنما هو الحساب الذي يسوء، وإنما هي جهنم لهم مهاد. ويا لسوء المهاد!: {للذين استجابوا لربهم الحسنى، والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به، أولئك لهم سوء الحساب، ومأواهم جهنم وبئس المهاد}... ويتقابل الذين يستجيبون مع الذين لا يستجيبون. وتتقابل الحسنى مع سوء العذاب.. ومع جهنم وبئس المهاد.. على منهج السورة كلها وطريقتها المطردة في الأداء..
|